فصل: مطلب الحكم الشرعي في الأحكام:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب قصة داود وسجود أبو بكر:

ولكن القصاص ذكروا وجوها كثيرة فيما وقع من السيد داود عليه السلام، أقوالا أعدلها وأقربها إلى المنطق وأصدقها عقلا هو أن داود عليه السلام كان رأى زوجة عامله أوريا فأعجبته، وكان في زمانه جواز سؤال الرجل أن يتنازل للغير عن زوجته، وكانت هذه عادة متفشية بينهم فسأله النزول عنها إليه، فلم يسعه أن يرده لما له من الهيبة والوقار في مقام النبوة والملك، فتنازل له عنها ثم تزوجها وأولدها سليمان عليه السلام، فعتب اللّه عليه لعظم منزلته عنده وكثرة نسائه ووجود أمثالها في أمته وعدم منع إرادته، وانه لا ينبغي لمثله وعنده النساء الكثيرات وقدرته على تزوج من شاء فيهن أن يسأل رجلا من رعيته ليس له غير امرأة واحدة التنازل عنها له، بل كان عليه أن يغلب هواه ويقهر نفسه ويصبر على ما امتحن به من رؤيتها وإعجابها، وليس في هذا ما يدل على الذنب بمعناه الحقيقي، لأن أهل زمانه لا يرون به بأسا لكثرة وقوعه، إلا أن مقام النبوة أشرف المقامات وأعلاها شرفا، فيطالبون بأكمل الأخلاق وأسمى الأوصاف فإذا نزلوا من ذلك إلى طبع البشر الذين هم دونهم مرتبة ومقاما وعزة عاقبهم اللّه عقاب معاتبة ليتيقظوا ويتنزهوا عن أمثاله، ثم يغفره لهم.
وإن مثل هذا لا يعدّ ذنبا في حق بقية البشر، ألا ترى أن المهاجرين لما نزلوا على الأنصار في المدينة ساووهم بمالهم وتشبهم وتخلوا لهم عن بعض نسائهم، فتزوجوهن ولم يروا بأسا بذلك، ولم يتورعوا عن زواجهن، لأن هذا مما تعورف عند الأعراب، ولا تزال هذه العادة حتى الآن لدى عرب البادية، وإن الرجل منهم قد يأتي إلى الآخر ويقول له على ملأ من الناس خلّ لي زوجتك أي تنازل لي عنها طلقها وأعطنيها لأتزوجها فيفعل، وكثيرا ما تقول المرأة لزوجها خلني لفلان فيخليها أي يطلقها فتتزوج به، إلا أن الأنبياء لما فضلوا على غيرهم ورفعهم اللّه بالنبوة لا يليق بمقامهم الشريف التنازل لبعض ما فيه بأس من عادات الناس لأنها تحط بقدرهم، وكذلك الأمثل فالأمثل ينبغي أن لا يقارب أمثال هذا وأن يتورع عنه كل ذي مروءة لأن الزمن هذا غير ذاك، ورحم اللّه امرأ جب المغيبة عن نفسه، هذا وقيل أن أوريا خطب تلك المرأة وغاب في غزاة فخطبها داود بعده وتزوجها، فاغتم أوريا لذلك، فعاتب اللّه داود عليه، واستدل صاحب هذا القيل بقوله تعالى: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ} أي الخطبة، ووجه العتب عليه خطبة على خطبته وقد جاءت شريعتنا بها حيث نهى رسول اللّه الخطبة على الخطبة والبيع على البيع راجع كتب الفقه بذلك، فالحادث عبارة عن إحدى هاتين وهي موافقة في المعنى لما أخبر اللّه به عنه وقد اعتمد جهابذة المفسرين، أما ما ذكره بعض الأخباريين، في أنه عليه السلام حين رأى المرأة أحبها وبعث زوجها أوريا إلى الغزو أو أمر بإرساله، وأن يتقدم التابوت لا يرجع حتى يقتل بقصد أخذ زوجته، فهو باطل بعيد عن الصحة، تتحاشى غير الأنبياء ومروءتهم عنه، وإن إرشادهم للخلق وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر يحول دون ذلك، ويتباعد مقامهم الشريف عنه، بل غيرهم من الصالحين لا يقدر عليه، ولأنه لو نسب إلى آحاد المؤمنين لاستنكف عن قربه وأنف من إحداهما مثله، فكيف يجوز إذا نسبته إلى صفوة خلق اللّه وأمينه على الوحي، روى سعيد بن المسيب والحارث الأعور عن علي كرم اللّه وجهه أنه قال: من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة جلدة مضاعفا.
لأن الجلد غايته ثمانون وهذا حد الفرية على الأنبياء، قال القاضي عياض لا يجوز أن يلتفت إلى ما سطر الأخباريون من أهل الكتاب الذين بدلوا وغيروا في مثل حادثة داود وسليمان ويوسف وأيوب عليهم السلام لأنهم لم ينقلوها من كتاب صحيح، ولم يتلقوها من ثقة.
وإن اللّه تعالى لم ينص على شيء من ذلك ولا رسوله أخبر به، وقال الإمام فخر الدين الرازي: حاصل ما ذكره القصاص يرجع إلى أمرين: السعي إلى قتل رجل مؤمن بغير حق، والطمع في أخذ زوجة ذات زوج، وكلاهما منكر عظيم، فلا يليق بعاقل أن يظن أبدا بداود عليه السلام أنه أقدم على ذلك، كيف وإن اللّه أثنى عليه قبل ذكر القصة المسطورة في القرآن وبعدها، مما يدل على استحالة ما نقله القصاصون، وكيف يتوهم من له مسكة من عقل، أن يقع ذم بين مدحين في كلام اللّه، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا، إذ لو وقع مثله بين كلام الناس لاستهجن، ولقال العقلاء للقائل أنت في مدح فكيف تذم من تمدح أثناء مدحك له؟
ومن المعلوم أن الأنبياء أنموذج البشر فلا يقع منهم إلا ما يكون قدوة لهم في الأخلاق والآداب لأنهم كاملون ولا يصدر من الكامل إلا الكامل، وقيل كلام اللّه ملك الكلام، ورأي العاقل عقل من الآثام.
قال تعالى: {يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً} عنا {فِي الْأَرْضِ} لتدبير أمر أهلها في معاشهم ومعادهم نيابة عنا وأعلم أن هذه الآية تشير إلى أن التوبة تمحو الذنب كما جاءت الآثار الصحيحة به وإلى أن حالة داود عليه السلام بعد التوبة كحالته قبلها فلم يتبدل أو يتغير عليه شيء من اللّه بدلالة قوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} الذي شرعته لك لتقوم به بينهم، وبما أوحيه إليك فيما تردد فيه {وَلا تَتَّبِعِ} منه في حكمك {الْهَوى} فنقض بما تراه نفسك لأن اتباع هوى النفس لا يكاد يقع من معصوم مثلك، وهذا على سبيل الإرشاد لمقتضى الخلافة وتنبيه لغيره ممن يتولى القضاء بين الناس، ولان الحكم بغير ما شرعه اللّه غير مناسب لمقامه تعالى، ولهذا كان حضرة الرسول الأعظم عند ما يسأل عن شيء لم ينزل به اللّه قرآنا، يرجىء الجواب حتى يتلقى الوحي فيه خوفا من أن يفتي بغير مراد اللّه {فَيُضِلَّكَ} اتباع الهوى في القضاء وغيره {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} طريقه السوي الذي سنه لعباده.
ومما يدل على أن في هذه الآية تنبيه ولاة الأمور على الإطلاق من الوقوع في الخطأ والحكم بالرأي أو العلم قوله جل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} في الأحكام وغيرها {لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ} في الآخرة {بِما نَسُوا} غفلوا عما أمروا به في الدنيا، ومن أعظم ذلك عذابا ترك العدل في القضاء {يَوْمَ الْحِسابِ} والجزاء لأنهم لو تذكروا عذاب اللّه في ذلك اليوم العظيم لما فرطوا في الأمر ولما حصلت لهم الغفلة والنسيان والخطأ.
كان إسماعيل الساماني إذا قضى بشيء قال: إلهي هذا جهدي وطاقتي ولا أعلم أجنفت أم ظلمت فاغفر لي. وأنا ممن يقول هذا، وأستغفر اللّه.
هذا، وإذا أردت استيفاء هذا البحث فعليك بمراجعة تفسير الآية 58 من النساء في ج3 لأنا سنبين فيها إن شاء اللّه ما تقف عليه مما يتعلق في هذا البحث، قال بعض المفسرين إن ذنب داود الذي أستغفر منه ليس بسبب أوريا وزوجته، بل بسبب قضائه للخصم قبل سماع كلام الآخر، ولحكمه بالظلم عليه بمجرد الدعوى، وهذا مخالف للعدل، فتاب وقبلت توبته ويستدل بهذا على نزاهة داود عليه السلام مما أسند اليه ولكن الأول أولى وأحرى.

.مطلب الحكم الشرعي في الأحكام:

الحكم الشرعي: لا يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه ولا قبل سماع دفاع الخصم وإن فصل الخطاب في شريعتنا، هو البينة على من أدعى واليمين على من أنكر ويجب عليه أن يتبصر بكلام الطرفين ويسوي بينهما بالمكان والكلام، والنظر ويتروى بالحكم بأن يتحقق من صحة الدعوى، ومطابقة الشهادة لها، ولبعضها، ومن عدالة الشهود وعدم المانع من قبولهم حتى تقطع الخصومة بوجه صحيح يكسر من عزم المنكر وجحوده، وأن يفهم حكمه إلى المحكوم عليه بلين ورفق ويبين له خطأه في إنكاره ويفصل أسباب الحكم وصحة الدعوى ليقع في قلبه عدم الحيف عليه ومنه، فهذا إذا لم يحمل المدعى عليه على الانحراف بالحق يحمله على الاعتراف بعدل الحاكم ويحمل ما يراه من الخطأ حسب زعمه على اجتهاد القاضي، والاجتهاد قد يحتمل الخطأ فيسلك طريق المراجعة إلى محكمة أخرى إذا كان يعتقد الخطأ فيه برضى واختيار وسكينة، راجع حديث البطاقة في الآية 7 من الأعراف الآتية، وهذا كله يتوقف على تحري العدل ومعرفه العلم وأصول القضاء، فيا ويل قضاة زماننا- وأنا منهم- إذا لم يسلكوا ما سنه اللّه لهم ورسوله، ويا ويل من ولاهم إذا كان في رعيته من هو خير منهم، ولا حول عن اجتناب المعصية، ولا قوة على فعل الطاعة إلا بإرادة اللّه وتوفيقه، قال بعض المفسرين: لما أنتبه داود إلى خطأه الذي هو من قبيل حسنات الأبرار سيئات المقربين، سجد للّه أربعين يوما لا يرفع رأسه إلا لحاجة أو لصلاة مكتوبة عليه، ثم يعود ساجدا تمام الأربعين يوما لا يأكل ولا يشرب وهو يبكي حتى نبت العشب حول رأسه، وهو ينادي ربه عز وجل ويسأله قبول توبته وكان من جملة دعائه في سجوده: سبحان الملك الأعظم الذي يبتلي الخلق بما يشاء سبحان خالق النور، سبحان الحائل بين القلوب، إلهي خليت بيني وبينك عدوي إبليس فلم أقم لفتنته إذ نزلت بي، سبحان خالق النور، إلهي أنت خلقتني وكان في سابق علمك ما أنا إليه صائر، سبحان خالق النور، إلهي الويل لداود يوم يكشف عنه الغطاء، فيقال هذا داود الخاطئ، سبحان خالق النور، إلهي بأي عين أنظر إليك يوم القيامة، وإنما ينظر الصالحون من طرف خفي، سبحان خالق النور، إلهي بأي قدم أقوم أمامك يوم القيامة يوم تزل فيه أقدام الخائنين ولم يزل كذلك حتى قبل اللّه توبته، على أن ظاهر القرآن يشعر بقبول توبته آنيا لقوله تعالى: {فَغَفَرْنا لَهُ} والفاء تفيد التعقيب والترتيب وهناك أخبار أخرى من قبول توبته أعرضنا عنها لعدم الوقوف بها اكتفاء بما ذكره اللّه القائل {وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا} عبثا لعبا ولهوا {ذلِكَ} أي خلقهما باطلا {ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} ليس إلا {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} على ظنهم الباطل هذا لأنا لم نخلق شيئا إلا لحكمة بالغة {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} الذين يتفكرون في عجائبهما ويمعنون النظر فيما بينهما من الصنع البديع والمخلوقات المتنوعة والانتظام في سير الكواكب وما يحدث عنها من المنافع وكيفية نبات الأرض واختلاف أصنافه وألوانه وأشكاله وما فيها من المياه والأودية والجبال وما خد فيها من الطرق والمغاور والوديان، وما أودعه فيها من المعادن والدواب والحيات والطير وما أودع فيها من الداء والدواء في نباتها ومعادنها، أي لا نجعل الصالحين المصلحين {كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ} الذين لا يفقهون شيئا من ذلك ولا يتدبرون مراد اللّه فيهما وما فيهما، وفضلا عن هذا يزعمونها باطلا، كلا لا يجعلهم اللّه سواء في الدنيا ولا في الآخرة {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ} ما نهوا عنه الملازمين ما أمروا به لأن الخير كل الخير في التقوى وما أحسن ما قيل فيها:
ولست أرى السعادة جمع مال ** ولكن التقيّ هو السعيد

وتقوى اللّه خير الزاد ذخرا ** وعند اللّه للأتقى مزيد

وما لابد أن يأتي قريب ** ولكنّ الذي يمضي بعيد

أي لا نجعل هؤلاء المتقين أبدا {كَالْفُجَّارِ} في الآخرة وإن اتفقا في بعض الأشياء في الدنيا فبينهما في الآخرة بون شاسع، فهذا التقي يكون في عليين، وذلك الشقي في سجين، وهذا منعم، وذاك معذب وأم هذه والتي قبلها منقطعة وتقدر ب {بل} لأنها تفيد الإضراب والانتقال، والهمزة لإنكار التسوية بين الفريقين وتعيينها على أبلغ وجه وهذا القرآن العظيم هو {كِتابٌ} كثير البركة والخير {أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ} يا سيد الرسل {مُبارَكٌ} جليل النفع في الدنيا والآخرة فأمر قومك {لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ} فيعرفوا أسرار التكوين والتشريع منها {وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ} فيه بأنا لم ننزله إلا لهذه الغاية كما أنا لم نخلقهم إلا للعبادة ونظير هذه الآية الآية 155 من الأنعام والآية 50 من الأنبياء في ج 2.
قال تعالى: {وَوَهَبْنا لِداوُدَ} زيادة على نعمنا السابقة {سُلَيْمانَ} خلفا له في نبوته وملكه ونعم الهبة الولد الصالح وهو {نِعْمَ الْعَبْدُ} المخصوص بالمدح هو سليمان عليه السلام وبعض المفسرين جعل المخصوص بالمدح داود وهو أهل للمدح إلا أن القول به غير سديد لأن سياق الآية ينفيه، وما بعده لا يقتضيه، لأن عود الاختصاص لا قرب مذكور هو المشهور، وإن اللّه مدح داود قبل، وإن قوله: {إِنَّهُ أَوَّابٌ} يصلح رجوعه إلى كل منهما وإن كانت بحسب الواقع تنصرف للقريب أيضا، ومعناه كثير الرجوع إلى ربه بالتوبة والندم الذي ديدنه الالتجاء إلى فضل اللّه والخضوع لأمره، وهو من أسماء المبالغة أي كل ما بدرت منه بادرة، أو فرط منه شيء تاب منه واستغفر ربه عنه.